عندما يقذف رامي الكرة في رياضة البيسبول كرةً سريعةً، تومض شاشة العرض الضخمة من مكانها أعلى الملعب لتعلن عن سرعة حركة الكرة التي يعود الفضل في رصدها إلى تقنية الرادار، هذه التقنية نفسها تفيد أيضًا في مراقبة حركة الملاحة الجوية، ومراقبة سرعة المركبات على الطرق السريعة، والتنبؤ بأحوال الطقس، بيد أن فوائد هذه التقنية ليست قاصرةً على كوكب الأرض وحده؛ إذ استعان رواد الفضاء بالرادار من قبل في سبر أغوار الكواكب والكويكبات من حولنا بقياس سرعتها وهي تدور حول الشمس والتقاط الصور لتفاصيل سطحها، واستكمالًا لهذه المسيرة، ابتكر فريق من الباحثين القائمين على تليسكوب «جرين بانك» Green Bank Telescope بولاية فيرجينيا الغربية نظامَ رادار متطورًا كي يكون أداة بحثية جديدة تَعِد بمزيد من الفتوحات العلمية في هذا المجال عن طريق رفع قدرات الرادارات الفلكية لتصبح أكثر دقةً من أي وقت مضى، وقد أعلن الفريق صاحب هذا الابتكار الفذ عن أولى نتائجه قبل شهرين في الاجتماع رقم 241 للجمعية الفلكية الأمريكية، كشفت تلك النتائج عن تفاصيل غير مسبوقة بشأن القمر، فضلًا عن رصد كويكب قريب من كوكب الأرض، وتعليقًا على هذا تقول فلورا باجانيلي، عالِمة البحوث في شعبة الرادار بالمرصد الوطني لعلم الفلك الراديوي: إن نظام الرادار الذي زود به الباحثون تليسكوب «جرين بانك» وأطلقوا عليه اسم «رادار الجيل التالي» (ngRADAR) “أثمر عن نتائج فاقت التوقعات”.
تقوم آلية عمل أنظمة الرادار التقليدية على إرسال موجات الراديو التي تصطدم بدورها بالأجسام القريبة منها وترتد إلى المصدر، غير أن الزمن الذي تستغرقه هذه الموجات في الارتداد يختلف باختلاف المسافة التي تقطعها، ومن هنا، فمعرفة العلماء بالزمن الذي عادت الموجات في غضونه تساعدهم في أمور مثل رسم تصور عن شكل الجسم الذي اصطدمت به الموجات أو قياس سرعته، ورغم أن أجهزة الرادار المستخدمة على كوكب الأرض غالبًا ما تكون صغيرةً بحيث يمكن حملها باليد، فإنها قادرة على إرسال موجاتها خارج نطاق كوكبنا لترصد ما هو أكبر بكثير من كرات البيسبول، مثل الكويكبات، وذلك إذا ما توافرت منها نسخة أكبر حجمًا وأعتى قوةً، كما في حالة تليسكوب «جرين بانك» الراديوي الضخم الذي يعتمد عليه «رادار الجيل التالي».
يبث نظام «رادار الجيل التالي» موجاته عبر تليسكوب «جرين بانك»، الذي يعمل كهوائي بث ضخم، أما في استقبال الموجات عبر مساحات تبلغ أميال فيستعين بـ«مصفوفة التليسكوبات الراديوية بالغة الطول» Very Long Baseline Array المنتشرة في أنحاء الولايات المتحدة وهاواي وجزر العذراء، وتجدر الإشارة إلى أن تليسكوب «جرين بانك» يتمتع بصحن يبلغ قطره 100 متر (وهو الجزء المكافئ للمرآة في تكوين التليسكوب الراديوي)، مما يجعله أضخم هوائي قابل للتوجيه على وجه الأرض، ويؤهله بشكل فريد لأداء هذه المهمة.
وقد اتجهت أنظار الفريق القائم على «رادار الجيل التالي» نحو القمر عندما أرادوا التحقق من سلامة هذا النظام الجديد؛ إذ قرروا استخدامه في تصوير أحد مواقع هبوط بعثة «أبولو» وفوهة «تيخو» القمرية الشهيرة، وكانت النتيجة التقاط “أدق صور تم التقاطها على الإطلاق للقمر من نظام رصد أرضي”، وفق باجانيلي، تكشف الصور عن تضاريس طولها متر، ومن المرجح أن تكون بالغة الأهمية للعلماء المهتمين بدراسة القمر.
ويعقِّب باتريك تايلور، رئيس شعبة الرادار بالمرصد الوطني لعلم الفلك الراديوي ومرصد جرين بانك: “كان من المذهل أن تمكنّا من ملاحظة الخصائص الجيولوجية السطحية الفريدة على قاع فوهة «تيخو»، ونترقب باهتمام كيف سيستفيد علماء جيولوجيا الكواكب من هذه المعلومات”.
اقرأ ايضاً : بالفيديو: مزارع عربي رصد رسم غريب فقاده لاكتشاف کنز ضخم في أرضه قيمته ملايين الدولارات
نجح الفريق كذلك في رصد كويكب يبعد عن الأرض بخمسة أمثال المسافة التي يبعدها القمر عنها، عِلمًا بأن الطاقة التي استهلكها هذا الاكتشاف كانت أقل من تلك التي يستهلكها فرن الميكروويف المنزلي، بالإضافة إلى ذلك، فإن النظام الجديد يبثّ موجاته عبر نطاق «كيه يو» Ku الترددي، وهو يحوي موجات راديو ذات تردد أعلى من تلك التي تستخدمها الرادارات الكوكبية الأخرى، ولمزيد من التوضيح، يقول إدجار ريفيرا-فالنتين، عالِم الكواكب في مختبر الفيزياء التطبيقية بجامعة جونز هوبكنز، والذي لم يشارك في مشروع «رادار الجيل التالي»: “يعني هذا أننا سنرصد [الكويكبات] من «منظور جديد»، وهو ما قد يمنحنا بدوره معلومات جديدة عن الخصائص السطحية لها، كأحجام الصخور والسمات الجيولوجية وكثافة السطح”.
ولا شك في أن تتبُّع الكويكبات عمل ممتع لعلماء الكواكب الذين ينقبون في هذه الأجرام الصخرية عن دلائل على ماضي نظامنا الشمسي، بيد أنه أيضًا عمل في غاية الأهمية للبشرية كلها بالنظر إلى أن أفضل طريق يمكن أن نسلكه إذا أردنا حماية أنفسنا من خطر الاصطدام بالكويكبات المتوجهة نحو كوكب الأرض هو تتبُّعها بما يضمن اكتشافها مبكرًا ودراسة خصائصها، مثل حجمها وكثافتها، ويعقِّب تايلور: “كلما علمنا بالمخاطر في وقت أبكر، زادت معرفتنا بالجرم المُقبِل علينا، وتحسنت فاعلية تعامُلنا مع الموقف”.
وقد دخل نظام «رادار الجيل التالي» حيز التشغيل في وقت حساس للغاية بالنسبة لمشاريع الدفاع الكوكبي وعلم الفلك الراديوي؛ فبعد الانهيار الكارثي لمرصد «أريسيبو» Arecibo الشهير في بورتوريكو، لم يبقَ قيد التشغيل سوى منشأة فلكية راديوية واحدة تتواصل مع السفن الفضائية التي تستكشف المجموعة الشمسية، هذه المنشأة كانت «رادار جولد ستون الراصد للمجموعة الشمسية» Goldstone Solar System Radar الذي يُعد جزءًا من «شبكة وكالة ناسا لمراقبة الفضاء العميق» Deep Space Network، وبطبيعة الحال هناك مجازفة كبيرة في الاعتماد على رادار «جولد ستون» وحده لحماية البشرية، خاصةً وأنه “تعطّل مؤخرًا لمدة 18 شهرًا، لنفتقد ولمدة طويلة أحد أهم غطاءاتنا الدفاعية الفضائية”، وفق عالِم الكواكب جان-لوك مارجو من جامعة كاليفورنيا بلوس أنجلوس، وهنا يتجلى دور نظام «رادار الجيل التالي»، الذي سيساعد على سدِّ الفجوة التي تركها مرصد «أريسيبو»، وسيكون دوره مُكملًا لدور منشأة «جولد ستون» القائمة، مما سيعزِّز من قوة خطوط الدفاع التي تحتمي بها البشرية.
وعلى أهميتها، فما هذه النتائج الأولية التي خرج بها «رادار الجيل التالي» إلا شرارة البداية؛ إذ يعمل الفريق القائم على المشروع حاليًّا على تحسين التصميم الأولي للنظام، انطلاقًا من تصورٍ قد يصبح هذا النظام بموجبه قاطرةً لعلم الفلك الراديوي على مدار السنوات القادمة، ويرى ستيفن ويلكنسون، مهندس بشركة «رايثيون تكنولوجيز» Raytheon Technologies التي صنعت نظام «رادار الجيل التالي» أن “التقنية [التي يقوم عليها النظام] يمكن التعويل عليها بشدة، فضلًا عن أنها ستسمح بتشغيل النظام بصورة متواصلة لسنوات قادمة”.
كما يخطط الفريق لتحسين قدرات النسخة المتطورة القادمة من «مصفوفة التليسكوبات الراديوية بالغة الطول»، والمعروفة باسم «المصفوفة بالغة الطول من الجيل التالي» (ngVLA)، مما سيجعل «رادار الجيل التالي» أكثر الرادارات الكوكبية تقدمًا في التاريخ على مدار العقد القادم، وختامًا، يقول مارجو إن “تزويد النظام بهذه الإعدادات المرتقبة سيجعله أعلى حساسيةً من مرصد «أريسيبو»، كما سيتيح رصد أجرام على مسافات أبعد”.
تعليقات
إرسال تعليق